التضحية البشرية فى مصر القديمـة
يكتب:
أ.د/ عبد الحميد عزب
استاذ الاثار والحضارة المصرية القديمة بجامعة طنطا
يذكر البعض أن المصريين القدماء عرفوا ظاهرة التضحية
البشرية، وأنهم كانوا يقتلون أحياناً بعض البشر من أجل أغراض طقسية أو دينية، وتم
تفسير وجود الجبانات الموجودة حول الأهرامات فى الجيزة وسقارة وأبو صير وغيرها ( التى
كانت تضم أجساد العديد من المقربين للملك )، بأنهم جميعاً تم قتلهم عنوة حتى يرافقونه
ويعيشون معه الحياة الأخرى تماماً كما كانوا يشاركونه الحياة الدنيا منذ عصر
الأسرة الأولى.
لقد حقق المصرى القديم معانى اللقاء والإلتقاء والرباط
الاسرى بكل ماصوره فى نقوش المقابر حيث رسم المتوفى مع زوجاته وأولاده وعبيده
وخدامه، وحيواناته، ومروجه، ووسط المنتجات والقرابين وغير ذلك ولم يكن فى حاجة
لقتل أحد حتى يرافقه العيش فى العالم الآخر، خاصة إذا علمنا أن القبر يعنى موت،
ولم يكن المصرى القديم يعلم أننا سوف نجعل من قبره مكاناً للزيارة بمرور آلاف
الأعوام.
يعد استاذى العالم الجليل رحمة الله عليه الاستاذ الدكتور
/ رشيد الناضورى من أول من تناول هذا الموضوع فى مقال له:
El Nadwry, R., Egypt and negro African
يوضح الدكتور الناضورى أن هناك حالات دفن نادرة يمكن
تفسيرها بالقتل عنوة لمرافقة الملك فى حياة الأبدية ( منها حالة واحدة حول هرم
خوفو بالجيزة )، وأن هذه الظاهرة أفريقية زنجية خالصة جاءت لمصر وليست متأصلة بها.
إن ما نعرفه حالياً فيما يسمى بعيد وفاء النيل وما ارتبط
به من فكرة " عروس النيل " التى يقال أنها عبارة عن طقوس تؤدى جنوب نيل
مصر عند المنابع، حيث كان يتم إلقاء فتاة جميلة الوجه، مليحة القد، حسنة الهيئة فى
نهاية الطقوس وسط مياه النيل حتى يفيض النيل ويفى مرة أخرى هى فكرة خاطئة ومبالغ
فيها، لأن المصرى القديم لم يكن يفعل ذلك وقد كذب " هيردوت " وأساء فهم
ما كان يحدث، وهو أن المصرى كان يلقى مجرد دمية أو عروس صغيرة الحجم تمثل إله
النيل نفسه وذلك بعد حرق البخور وذبح الأضاحى ضمن طقوس خاصة بوفاء النيل، وتحور
الأمر بأنها تضحية بشرية بكل أسف.
إن ما حدث أثناء تولى سيدنا عمرو بن العاص القيادة فى
مصر عندما أرسل لخليفة رسول الله سيدنا عمر بن الخطاب قائلاً " من عمرو بن
العاص الى خليفة رسول الله ، يقولون أن نيل مصر لن يفى هذا العام لوجود عادة
ضرورية وهى إلقاء فتاة جميلة عند منابع النيل فانظر ماذا ترى ؟ ، وهنا رد عليه عمر
بن الخطاب قائلاً:
" من خليفة رسول الله إلى نيل مصر، إن كنت تفيض من
عندك فلا تفيض، وإن كنت تفيض من عند الله منزل الغيث فأفض، وهنا رد جميل واضح رفض
عمر بن الخطاب لهذا كله، وبالفعل فاض النيل بدون عروس أو فداء أو تضحية "،
وانتهى مجرد الكلام فى مثل هذا الأمر.
يرتبط هذا الأمر أيضاً بعيد " سد "، او "
اليوبيل الثلاثينى "، أو " عيد الديل "، حيث كان ولابد أن يؤدى الملك
طقوس توضح مدى تمتعه بالصحة والعافية والقوة البدنية، وكان هذا العيد فى الحقيقة
كما هو واضح من مجموعة الملك " نترى غت " ( زوسر ) بسقارة من الأسرة
الثالثة يقوم الملك فيه بالهرولة والجرى الطقسى لمدة كبيرة، ويذبح بنفسه الثيران
شديدة القوة مما يتطلب شاباً قوياً وليس شخصاً معتل الصحة، كما كان عليه أن يصعد
درجات منصة اليوبيل الخاصة بالتتويج والتى توضح بقاياها أنها شديدة الارتفاع (
طبعاً لوكان معتل الصحة ولديه أمراض خشونة المفصل ما تمكن من صعودها )، ويذكر
الدكتور رشيد الناضورى أن أصل هذا العيد أفريقى حيث إعتادت القبائل أن تقيم حفلاً
كبيراً يحضره القبيلة وكهنتها ويقوم فيه الملك بإثبات مدى شبابيته وقوته وعندما لا
يتمكن يقومون بقتله، وإلا فلن تمطر السماء، ولن تنبت الزروع، ولن تنجب النساء،
إعتماداً على عقيدة الأفارقة بأن الكون يرتبط بصحة الحاكم، وفى حال عدم قدرة
الحاكم على عمل كل هذا يتم قتله وتنصيب أى شخص أى شخص آخر مكانه.
أخيراً أود الإشارة أن الحضارة الأفريقية الزنجية تعرف
جيداً بالفعل ظاهرة التضحية البشرية، وليس من الضرورة أن تكون نقلتها عنها الحضارة
المصرية القديمة على الرغم من الصلات المصرية الأفريقية الوطيدة.
أود الإشارة أيضاً أن وجود بعض التوابيت الحجرية فى
جبانة الجيزة وقد إمتلأت بعدد من الهياكل العظمية أو الجثث ليس له علاقة بموضوع
التضحية البشرية حيث يذكر البعض أنهم قتلوا عنوة وتم إغلاق التابوت الحجرى عليهم
أحياء، ويمكن تفسير الأمر بأن التابوت استخدم كمعظمة ( مكان لتجميع رفات عظام بعض
الجثث )، أو ربما دفن عظام أسرة أراد الكهنة لهم أن يكونوا معاً فى العالم الآخر
ويتشاركون فى البعث معاً مرة أخرى، وأن كنت أرجح أن الأمر يرجع لإرتفاع سعر
التابوت الحجرى فى ذلك الوقت وليس التضحية البشرية.
لقد كان المصرى القديم إنسان وفنان، وكان محباً للناس
والطبيعة من حوله ومن هنا علينا أن نبرأه من معرفته للتضحية البشرية أو القتل عنوة
إلا فى حالة الحرب.
حتى يحين اللقاء تقبلوا تحياتى
مع تحياتى إلى الماضى فإنه أجمل وأغلى ما فى حياتى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
قال الاجداد "صم شفتيك.. وراقب يديك.. واكبح جماح قلبك"
اترك تعليقك وافتخر بمصريتك